موضوع: ما الذي رفـع قَـدرهـم ؟ الأربعاء مايو 19, 2010 7:30 pm
ما الذي رفـع قَـدرهـم ؟
أولئك أقوام لا قيمة لهم في موازين الجاهلية حتى كان أحد صناديد الجاهلية يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سرّك أن نتبعك فاطرد عنك فلانا وفلانا ، ناسا من ضعفاء المسلمين . فجاء الأمر من فوق سبع سماوات : ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
كان هذا في مكة قبل الهجرة وما زاد بعد ذلك إلا شدّة
قال ابن القيم رحمه الله : وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يُجرّ في الرمضاء على جمر الفتنة ، فنشر بَـزّاً طُوي عن القوم من يوم قوله : أحد أحد ، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية ، فاقبلوا يؤمون الصوت ، فدخلوا في دين الله أفواجا .
إنني سوف أتحدّث عن رجال أفذاذ الواحد منهم بألف وواحد كالألف إن أمر عنى
وربما كانوا رجالاً لا قيمة لهم في موازين الجاهلية والجاهلين
ولكنهم انفردوا بالصدارة زمناً ، وبقي ذكرهم أزماناً
حتى كان بعض الخلفاء يتمنى أنه مكان ذلك العالم
لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة ، فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى : من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب قال : من هذا ؟ قالوا : عبدالله بن جعفر ، قال : خلُّوا لـه الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى : بينمـا يذكـرنني أبصـرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر قلن تعرفن الفتى ؟ قلن : نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمـر قال : من هذا ؟ قالوا : عمر بن أبي ربيعة ، قال : خلُّوا لـه الطريق فليذهب . قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال لـه : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟ قالوا : عبد الله بنُ عمر ، فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
هكذا يُثير معاوية في ابنه ما يُثير ويُربي فيه ما يُربي من حُبّ العلم ، ورفعة أهله حتى حلف له : إن هذا لهو الشرف ! وكأنه يُشير إليه من طرف خفي : ليس فيما فيه أبوك !
وهذا خليفة آخر يُشير بتلك الإشارة قال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن أبي رباح عبداً اسود لامرأة من مكة ، وكان أنفه كأنه باقلاّء ! فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابْـنَـاهُ ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لابْنَيه : قوما ، فقاما ، فقال : يا بَنيّ ! لا تَـنِـيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّـنا بين يدي هذا العبد الأسود !
إن الذي رفعه هو العلم
قال أبو العالية : كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش ، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير ، فتغامز بي قريش ، ففطن لهم ابن عباس فقال : كذا هذا العلم ، يزيد الشريف شرفا ، ويجلس المملوك على الأسرّة !
وذاك مولى ! رفعه القرآن وعلم الكتاب والسنة روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل نافع بن عبد الحارث على مكة فَلَقِيَه عمر بعسفان فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . قال : ومَنْ ابن أبزى ؟! قال : مولى من موالينا ! قال : فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عـز وجل ، وإنه عالـم بالفرائض . قال : عمر أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين .
وهذا عالم آخر وعَلَم فـذّ أصله مولى ! نعم أبوه كان عبداً يُباع ويُشترى !
ولكنه علا وارتفع بالعلم النافع ، علم الكتاب والسنة
لما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبد الله بنِ المبارك و تقطعت النعال و ارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال لـه عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان . رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
ذلكم هو العالم المجاهد البطل الذي لا يُشقّ له غبار ، والعالم الذي فاق الأقران ، هو عبد الله بن المبارك رحمه الله
وذاك علم آخر من أعلام الإسلام ، وإمام من أئمة التابعين وهو مولى ! لكنه سيّـد من سادات التابعين ، سـاد بالعلم النافع
ذلكم هو الإمام محمد بن سيرين رحمه الله فمن الذي لا يعرف ابن سيرين رحمه الله ؟ ( ولعله يُفرد له ترجمة في مشكاة أعلام النبلاء )
وهذا عالم تولى القضاء بمكة عشرين سنة ، وكانت تهابه الخصوم . ذلكم هو : محمد بن عبد الرحمن الأوقص عُنقُه داخل في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّـان فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنت المضحوك منه المسخور به ، فعليك بطلب العلم ، فإنه يرفعك ، فولى قضاء مكة عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم قال : ومرت به امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار فقالت له : يا ابن أخي وأيّ رقبة لك ؟!
فبأي شيء ارتفع هؤلاء ؟
إنما رفع الله قدرهم ، وأعلى ذِكرهم ، بالعِلم النافع (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
العلم الذي يُورث الخشية ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
العِلم الذي لا يكون مقصوراً ولا محصوراً بل هم علماء عامّـة يُعلّمون الناس ، ويُخالطون الناس ، ويصبرون على أذاهم
\\" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم \\"
وأختم بكلمة إمام أهل السنة يوم قال لأهل البدع : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز !
فكم شهِد جنازة ذلك العالم الرباني ؟ على أقل تقدير ! قال فتح بن الحجاج : سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أن الأمير بعث عشرين رجلا فحزروا كم صلى على أحمد بن حنبل ؟ قال : فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفا ، وقال غيره وثلاث مائة ألف سوى من كان في السفن في الماء .