بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
1 ـ علم لا يُعمل به : أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة قيّمة من كتاب ابن القيم الفوائد ، هذه الفائدة عنوانها عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها ، أي تاجر حينما يستورد صفقة ، ويجهد جهداً كبيراً في بيعها ، وفي المحصلة لم يربح بها شيئاً ، يتألم أشد الألم ، لأنه جهد ضائع ، ومال لم ينتفع به، والخسارة مؤلمة جداً ، وقبل : الخسارة أن يضيع وقتك سدى ، أن يضيع جهدك سدى ، لذلك ابن القيم رحمه الله تعالى يقول : عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها : أولها علم لا يعمل به. العلم ما انتفعت به و إذا لم تنتفع به لا قيمة له ، مرة وقع تحت يدي كتاب صُدّر بأربعة أدعية مؤثرة جداً ، الدعاء الأول يقول : " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ". أي أنت تتعلم ، تتعب ، تبذل جهداً ، تشرح ، توضح ، تحلل ، لكنك لم تطبق هذا العلم ، يأتي إنسان لا تعب ولا اجتهد ، سمع الحديث فقنع به ، طبقه ، قطف كل ثماره ، مصيبة كبيرة جداً ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، لذلك العلم الذي لا يعمل به جهد ضائع . 2 ـ عمل لا إخلاص فيه و لا اقتداء : شيء آخر : وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ، إنسان صلى في الصف الأول في صلاة الفجر أربعين عاماً ، في أحد الأيام غلبته نفسه فتغيب عن الصلاة فقال : ماذا يقول الناس عني هذا اليوم ؟ معنى هذا أنك في الأربعين عاماً فعلت هذا من أجل أن تنتزع إعجاب الناس ، العمل بلا إخلاص لا قيمة له ، عمل ضائع : (( إِنما الأعمال بالنياتوإنما لكل امرئ ما نوى )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ] لو الإنسان تتبع أعماله قد يكتشف ـ والحقيقة مرة ـ أنه ليس مخلصاً الإخلاص الكافي ، لذلك قالوا : هناك إخلاص يحتاج إلى إخلاص ، تبذل جهداً دون أن تشعر من أجل أن تنتزع إعجاب الناس ، من أجل أن تصرف وجوههم إليك ، من تعلم العلم ليجادل به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه فليتجهز إلى النار .
النية خطيرة جداً : (( إِنما الأعمال بالنيات )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ] قيمة العمل بنيته ، مثلاً لو قدمت لإنسان شراباً لذيذاً ، وتعلم أن هذا الشراب يؤذي معدته ، وأنت بنية إيذاء معدته تحاسب حساباً شديداً ، مع أن الظاهر قدمت له شراباً لذيذاً ، ولو أعطيته دواءً وفي نيتك أن يشفى به فازداد مرضه ترقى عند الله رقياً : (( إِنما الأعمال بالنيات )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ] فلذلك قيمة العمل بالرؤيا التي قبله ، بالتصور الذي قبله ، بباعث الحركة الذي سبقه ، لذلك الإخلاص الإخلاص لأنه من دون إخلاص لا ينفعك كثير العمل ولا قليله ، ومع الإخلاص ينفعك قليل العمل . علم لا يعمل به جهد ضائع ، حجة عليك ، ندم يوم القيامة ، أي إنسان على وشك أن يموت عطشاً ، فإذا عرف مكان الماء ، ولم يذهب إليه ، ومات من العطش ، قبل أن يموت يزداد ألماً لأنه علم ولم يعمل ، لذلك قال تعالى :
( سورة الفاتحة )
المغضوب عليهم عرفوا وانحرفوا ، الضالون ما عرفوا وانحرفوا ، الذي عرف وانحرف ندمه أشد ، لذلك قال تعالى :
(سورة النساء)
علمٌ لا يُعملُ به ، وعملٌ لا إخلاص فيه ولا اقتداء . 3 ـ مال لا ينفق منه : الآن ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، إنسان ترك ملايين مملينة وتوفي ، رأى صديق المتوفى ابن المتوفى في الطريق سأله سؤال المستفهم إلى أين أنت ذاهب ؟ فقال له : أنا ذاهب لأشرب الخمر على روح والدي . أنت حينما لا تعلم أولادك هذا المال الذي تركته لهم إثم كبير لأن طريقة إنفاق المال قد تلحق بالمتوفى . ومالٌ لا يُنفقُ منه ، لذلك العلماء فرقوا بين الكسب والرزق ، الرزق ما انتفعت به ، الطعام الذي تأكله ، الثياب التي تلبسها ، البيت الذي تأوي إليه ، الفراش الذي تنام عليه ، هذا الرزق ، أما الكسب الرقم في المصرف ، حبر على ورق ، ثمانية وثلاثون مليوناً ، أكل وجبة متواضعة ، ونام على سرير واحد ، وارتدى ثياباً واحدة ، فالكسب محاسب عليه ولو لم تنتفع منه ، أما الرزق كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ". علم جهد ضائع لا يُعمل به ، عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ، مال لا ينفق منه ، فلا يستمتعُ به جامعُهُ في الدُّنيا ، ولا يقدِّمُهُ أمامه إلى الآخرة . والبخل والشح أمراض وبيلة يعيش فقيراً ليموت غنياً . 4 ـ قلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله : شيء رابع ، وقلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، ساهٍ ولاهٍ ، لذلك قال تعالى :
(سورة الشعراء)
القلب السليم ، هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، ولا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله ، ولا يُحكّم غير شرع الله ، ولا يعبد إلا الله ، قلب فارغ ليس فيه محبة لله ، يتحدث معك ساعات طويلة في أمور الدنيا ، لو أن الإمام أطال بالآية هناك من ينتقد الإمام ، لكن وهو واقف في الطريق يبقى ساعتين ، والحديث عن مشاريع التجارة ، وأسعار العملات ، والاستثمارات ، قلب فارغ من محبة الله مشغول بالدنيا ، وحبك الشيء يعمي ويصم . 5 ـ بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه : بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه ، لا يتحرك إلا بعمولة ، لا يتكلم كلمة إلا بأجر ، لو دلك على شيء يريد أجراً ، لا يتحرك ولا يتكلم ولا يدلك إلا بمال ، بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه . 6 ـ محبّةٌ لا تتقيدُ برضاءِ المحبوبِ : الآن إذا أحب يحب محبوباً لا يحبه الله ، إذا أبغض يبغض جهةً يحبها الله ، محبته وكراهيته لا علاقة لها بإيمانه يحب من ينتفع منه ، يحب من يعظمه ، يكره من ينصحه ، فحبه وبغضه ليسا متقيدين بالشرع . إذاً علمٌ لا يُعملُ به ، عملٌ لا إخلاص فيه ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، قلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه . لو أحب محبته لا تتقيد برضاءِ المحبوبِ وامتثالِ أوامرهِ . 7 ـ وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط أو اغتنامِ عمل صالح : والآن الوقت : يسهر لساعات طويلة في لعب النرد ، في متابعة المسلسلات ، وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط ، أنت وقت ، أنت بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، فالوقت المعطل عن استدراك ما فرطت سابقاً ، إنسان اصطلح مع الله ، هذا الوقت الثمين يمكن أن يعوض ما فاته من عمل صالح ، من طلب للعلم ، أنت بضعة أيام ، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، تزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ، وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط أو اغتنامِ برِّ أو عمل صالح لا يتحرك إلا لمصلحته . 8 ـ فكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ : الآن وفكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، أحياناً الإنسان ينغمس في متابعة الأخبار المحلية، والعربية ، والإسلامية ، والدولية ، يتابع التعليقات والتصريحات ، مهما تتبعت الأخبار ، مهما تعمقت في فهمها ، مهما حللتها ، ماذا فعلت في النهاية ؟ ما فعلت شيئاً ، اعمل عملاً تتقرب به إلى الله عز وجل ، أي فكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، يقول لك قرأت الأوديسا ؟ ما قرأتها ؟ لا ولله ، سبعة آلاف بيت كلها آلهة وشرك لكن صياغتها رائعة ، قرأت ديوان فلان ؟ لا والله ، مشغول بموضوعات لا تقدم ولا تؤخر ، ولا ترتقي بالإنسان ، ولا ينتفع بها لكنها ممتعة ، لو رأيت الناس كيف يمضون أوقاتهم إما في معاصي اللسان ؛ الغيبة والنميمة ، أو في مثيرات تحفزهم إلى المعاصي والآثام ، أو في مواضيع لا قيمة لمن أدركها ، مرة دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد رأى نسابة ، سأل سؤال العارف من هذا ؟ قالوا : هذا نسابة ، فقال النبي وما نسابة ؟ قال : علم بأنساب العرب ، قال : ذلك علم لا ينفع من تعلمه ولا يضر من جهل به . الوقت ثمين . 9 ـ خدمةُ إنسان لا تقرِّبُك خدمتهُ إلى الله : شيء آخر ضائع : خدمة من لا تقرِّبُك خدمتهُ إلى الله ، أحياناً يخدم إنساناً منحرفاً ، فاسقاً ، يحب أن يظهر أمامه أنه بطل ، همه انتزاع إعجابه ، همه أن يبتسم أمامه ، هذا الشخص مقطوع عن الله ، تخدمه متوهماً أن بيده شيئاً ، ولا أحد ينفعك إلا الله ، هو المعطي، هو المانع ، هو الرافع ، هو الخافض ، هو المعز ، هو المذل . 10 ـ خوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيد الله : شيء آخر : خوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيد الله ، تخاف من إنسان بيد الله ، في قبضة الله ، قال تعالى :
( سورة هود )
هذا الذي تخافه ، هذا الذي ترجوه ، هذا الذي تعلق عليه الآمال ، هذا الذي تتوهم أن رضاه عنك يرفعك إلى أعلى عليين ، وأن سخطه عليك يهوي بك إلى أسفل سافلين ، أنت واهم هو بيد الله ، في قبضة الله ، حاول أن ترضي خالقك ، حاول أن ترضي من إليه المصير ، حاول أن ترضي من وعدك بجنة عرضها السماوات والأرض . وخوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيدِ الله ، وهو أسيرٌ في قبضة الله ، ولا يملكُ لنفسهِ ضراً ، ولا نفعاً ، ولا موتاً ، ولا حياةً ، ولا نُشوراً . هذا هو الشرك الأصغر ، هذا هو الشرك الخفي أخفى من دبيب النملة السمراء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء .
قال : وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان ، عشرة أشياء ، علمٌ لا يُعملُ به ، وعملٌ لا إخلاص فيه ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، وقلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، وبدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه ، ومحبّةٌ لا تتقيدُ برضاءِ المحبوبِ ، ووقتٌ معطلٌ عن استدراكِ فارطٍ أو اغتنامِ عمل صالح ، وفكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، وخدمةُ إنسان لا تنفعك خدمه ، وخوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيدِ الله ، هذه عشرة أشياء وهو أسيرٌ ، لكن أعظم هذه الإضاعات إضاعتان إضاعةُ القلبِ وإضاعةُ الوقت ، إضاعة القلب حينما تملؤه بحب الدنيا ، حينما تؤثر الدنيا على الآخرة، حينما تؤثر حياة قصيرة على حياة أبدية ، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة ، أما إضاعة الوقت يأتي من طول الأمل . والله حدثني إنسان عن خططه لعشرين سنة قادمة ، وفي المساء قرأت نعوته في اليوم نفسه ، طول الأمل .
أيها الأخوة ، الفسادُ كلهُ يجتمع في اتباع الهوى وطولِ الأمل ، والصلاحُ كلهُ يجتمع في اتباعِ الهدى والاستعداد للقاء الله عز وجل . لذلك بعد الخمسين هناك ضعف بصر ، و نظارات ، أحياناً هناك أدوية معينة ، هناك التهاب مفاصل ، و أشياء متعبة ، أنا أرى هذه رسائل من الله أن يا عبدي قد اقترب اللقاء هل أنت مستعد له ؟
إلى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤولتعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمــري في المقام شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعــته إن المــحب لمن يـحب يطيع
*** العجب ممن تعرض له حاجة ، أي يتمنى أن يرسل في بعثة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له ، ولا يسأله الآخرة ، يسأله الدنيا فقط ، يسأله زواجاً ، امرأة ، يسأله مكانة ، شهادة ، عملاً ، فرصة ، مالاً ، ونسي الآخرة ، هذا الذي يقتصر في سؤال الله عن دنياه وينسى الآخرة فقد ضيّع أيضاً وقتاً ثميناً . أيها الأخوة الكرام ، أخطر شيء في حياة الإنسان الشهوات والشبهات ، الشهوات نفسية ، الشبهات فكرية ، فهذه الأشياء العشرة أرجو الله عز وجل بدل أن نضيعها أن ننتفع بها . والحمد لله رب العالمين |