[size=24] [center][b][size=16]باب الاقتصاد في الطاعة
قال الله تعالى : ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طـه:1،2) ، وقال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة:185) .
الشرحلما ذكر المؤلف ـ رحمة الله ـ في باب السابق كثرة طرق الخير ، بين في هذا الباب أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في الطاعة ، فقال : ( باب اقتصاد في الطاعة ) والاقتصاد: هو أن يكون الإنسان وسطاً بين الغلو والتفريط ، لأن هذا هو المطلوب من الإنسان في جميع أحواله ؛ أن يكون دائراً بين الغلو والتفريط ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) .
وهكذا الطاعة ينبغي أن تقتصد فيها ، بل يجب عليك أن تقتصد فيها ؛ فلا تكلف نفسك ما لا تطيق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر الثلاثة الذين قال أحدهم : إني لا أتزوج النساء ، وقال الثاني : أصوم ولا أفطر ، وقال الثالث : أقوم ولا أنام ، خطب عليه الصلاة والسلام وقال : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ، وإني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )(167) فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن رغب عن سنته ، وكلف نفسه ما لا تطيق .
ثم استشهد المؤلف بقوله تعالى : ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) (طـه:1،2) ، ( طه ) هذه حرفان من حروف الهجاء ، أحدهما طاء والثاني هاء ، وليست اسماً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه بعضهم ، بل هي من الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور الكريمة من كتابه العزيز ، وهي حروف ليس لها معنى ؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية ، واللغة العربية لا تجعل للحروف الهجائية معنى ، بل لا يكون لها معنى إلا إذا ركبت وكانت كلمة .
ولكن لها مغزى عظيم ، هذا المغزى العظيم هو التحدي الظاهر لهؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام ، وهؤلاء المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم عجزوا أن يأتوا بشيء مثل القرآن ؛ لا سورة ولا بعشرة سور ولا بآية ، ومع هذا فإن هذا القرآن الذي أعجزهم لم يأت بحروف غريبة لم يكونوا يعرفونها ، بل أتى بالحروف التي يركبون منها كلامهم .
ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدئت بهذه الحروف إلا وجدت بعدها ذكر القرآن ، في سورة البقرة : ( آ لم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ، وفي سورة آل عمران (آلم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) ، وفي سورة الأعراف (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) وفي سورة يونس ( آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) . وهكذا نجد بعد كل حروف هجائية في بداية السورة يأتي ذكر القرآن ، إشارة إلى أن هذا القرآن كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلام العرب ، ومع ذلك أعجز العرب ، هذا هو الصحيح في المراد من هذه الحروف الهجائية .
وقوله عز وجل : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) يعني ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن لينال الشقاء به ، ولكن لينال السعادة والخير والفلاح في الدنيا والآخرة ، كما قال الله سبحانه تعالى في هذه السورة نفسها ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طـه:123،127) ، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ولكن لتسعد في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا لما كانت الأمة الإسلامية أمة القرآن تتمسك به وتهتدي بهديه ، صارت لها الكرامة والعزة والرفعة على جميع الأمم ، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، ولما تخلفت عن العمل بهذا القرآن تخلف عنها من العزة والنصر والكرامة بقدر ما تخلفت به من العمل بهذا القرآن .
ثم ساق المؤلف آية أخرى ، وهي قول الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة:185)، يعني أن الله يريد بنا فيما شرع لنا التيسير ، وهذه الآية نزلت في آيات الصيام حتى لا يظن الظان أنه ألزم الناس به للمشقة والتعب ، فبين الله تعالى أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر ، ولهذا من سافر لم يجب عليه الصوم ، ويقضي من أيام أخر ، ومن مرض لم يجب عليه الصوم ، ويقضي من أيام أخر ، هذا من التيسير ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) .
ولهذا كان هذا الدين الإسلامي ـ ولله الحمد ـ دين السماحة واليسر والخير والسهولة ، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التمسك به والوفاة عليه وملاقاة ربنا عليه .
* * *142ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال : (من هذه ؟) قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال : (مه) ، عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أجب الذين إليه ما داوم صاحبه عليه . متفق عليه (168).
(ومه) كلمة نهي وزجر ، ومعنى (لا يمل الله ) أي : لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ، وبعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا ، فينبغي لكم أن تأخذوا مل تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم .الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في باب الاقتصاد في الطاعة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة ، فقال : (من هذه ؟) قالت : فلانة ، وذكرت من صلاتها ، يعني أنها تصلي كثيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه) ومه : يعني أمر بالكف ، فهي عند النحويين اسم فعل بمعنى اكفف، وصه : بمعنى أسكت .
فالمعنى أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر هذه المرأة أن تكف عن عملها الكثير ، الذي قد يشق عليها وتعجز عنه في المستقبل فلا نديمه، ثم أمر النبي - عليه الصلاة والسلام- أن نأخذ من العمل بما نطيق ، فقال: ( عليكم بما تطيقون ) يعني لا تكلفوا أنفسكم وتجهدوها ، فإن الإنسان إذا أجهد نفسه ، وكلف نفسه ، ملت وكلت ، ثم انحسرت وانقطعت .
وذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب الدين إليه أدومه ، أي : ما دام عليه صاحبه ، يعني أن يعمل وأن قل إذا داومت عليه كان أحسن لك ، لأنك تفعل العمل براحة ، وتتركه وأنت ترغب فيه ، لا تتركه وأنت تمل منه .
ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : فو الله لا يمل الله حتى تملوا ) يعني أن الله عز وجل يعطيكم من الثواب بقدر عملكم ، مهما داومتم من العمل فإن الله تعالى يثيبكم عليه .
وهذا الملل الذي يفهم من ظاهر الحديث أن الله يتصف به ، ليس كمللنا نحن ، لأن مللنا نحن ملل تعب وكسل ، وأما ملل الله عز وجل فإنه صفة يختص به جل وعلا ، والله سبحانه وتعالى لا يلحقه تعب ولا يلحقه كسل ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) (قّ:38) هذه السماوات العظيمة والأرض وما بينهما خلقها الله تعالى في ستة أيام : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، قال (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) يعني ما تعبنا بخلقها في هذه المدة الوجيزة مع عظمها .
ففي هذا الحديث فوائد ، منها : أن الإنسان ينبغي له إذا رأى عند أهله أحد أن يسأل : من هو ؟ لأنه قد يكون هذا الداخل على الأهل ممن لا يرغب في دخوله ، فإن من النساء من تأتي إلى أهل البيت تحدثهم بأحاديث يأثمون بها من الغيبة وغيرها ، وربما تدخل امرأة ـ بحسن نية أو غير حسن نية ـ تسال مثلاً عن البيت ؛ عما يفعل الزوج ، وعما يفعل الابن ، عما يفعل أخوك ، ثم إذا ذكرت ما يفعل قالت : هذا يسير ، كيف ما يعطيكم إلا كذا ؟ كيف ما يعطيكم إلا هذه الثياب ؟ إلا هذا الطعام ؟ وما أشبه ذلك ، حتى تفسد المرأة على زوجها ، فلذلك ينبغي للإنسان إذا وجد عند أهله أحد أن يسأل عنهم : من هؤلاء ؟ كما سأل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عائشة عن المرأة التي عندها .
وفيه أيضاً أنه ينبغي للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطاعة وكثرة العمل ، فإنه إذا فعل هذا مل ، ثم ترك ، وكونه يبقى على العمل ولو قليلاً مستمراً عليه أفضل ، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ، قال ذلك رغبة في الخير ، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال له : ( أنت الذي قلت ذلك ؟ ) قال : نعم يا رسول الله ، قال : ( إنك لا تطيق ذلك ) ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فقال: إني لا أطيق أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يوماً ويفطر يومين ، فقال : أطيق أكثر من ذلك ، فقال : ( صم يوماً وأفطر يوماً ) قال : إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : ( لا أكثر من ذلك هذا صيام داود ) .
وكبر عبد الله بن عمرو وصار يشق عليه أن يصوم يوماً ويترك يوماً ، فقال : ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم (169)، ثم صار يصوم خمسة عشراً يوماً سرداً ، ويفطر خمسة عشر يوماً سرداً .
ففي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العـبادة على وجه مقتصد ، لا غلو ولا تفريط ، حتى يتمكن من الاستمرار عليها ، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل . والله الموفق .
* * *
143 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! قال أحدهم : أما أنا فاصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) متفق عليه(170).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في باب الاقتصاد في العبادة : أن ثلاثة نفر جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون زوجاته عن عمله الذي يعمله في بيته ، وذلك لأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهر يعرفه الناس كلهم ؛ كالذي يفعله في المسجد أو في السوق أو في مجتمعاته مع أصحابه ، فهذا ظاهر يعرفه غالب الصحابة الذين في المدينة ، وإما أن يكون سراً لا يعرفه إلا من في بيته ، أو من كانوا من خدمه مثل عبد الله بن مسعود ، وأنس بن مالك وغيرهما رضي الله عنهم .
فجاء هؤلاء النفر الثلاثة إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهم كيف كانت عبادته في السر ، يعني في بيته ، فأخبروا بذلك ، فكأنهم تقالوها ، لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصوم ويفطر ، وكان يقوم ويرقد ، وكان يتزوج النساء عليه الصلاة والسلام ويستمتع بهن ، فكأنهم تقالوا هذا العمل ، لأن معهم نشاطاً ـ رضي الله عنهم ـ على حب الخير ، ولكن النشاط ليس مقياساً ، المقياس ما جاء به الشرع .
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم قلتم كذا وكذا ، قالوا : نعم ، لأن أحدهم قال : أصلي الليل أبداً ولا أرقد ، والثاني قال : أصوم النهار أبداً ولا أفطر ، والثالث قال : أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فأقروا على أنفسهم بأنهم قالوا ذلك .
ولا شك أن هذا الذي قالوا خلاف الشرع ، لأن هذا فيه إشقاقاً على النفس وإتعاباً لها ؛ يبقى الإنسان لا يرقد أبداً كل الدهر يصلي ! هذا لا شك أنه مشق على النفس ومتعب لها ، وأنه داع إلى الملل ، وبالتالي إلى كرهة العبادة ، لأن الإنسان إذا مل الشيء كرهه .
كذلك الذي قال : أصوم أبداً ؛ يبقى صيفاً وشتاءً صائماً ! هذا لا شك أنه مشقة .
والثالث قال : أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً ، هذا أيضاً يشق على الإنسان ، لاسيما الشباب يشق عليه أن يدع النكاح . ثم إن التبتل وعدم النكاح منهي عنه ، قال عثمان بن مظعون : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن التبتل ، ولو إذن لنا لاختصينا(171) .
فالمهم أن هذه العبادة التي أرادها هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ كانت شاقة ، وهي خلاف السنة ، ولكن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ سألهم واستقرهم : هل قالوا ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) يعني من رغب عن طريقي واتخذ عبادة أشد ، فإنه ليس مني .
ففي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في العبادة ، بل ينبغي له أن يقتصد في جميع أموره ، لأنه إن قصر فاته خير كثير ، وإن شدد فإنه سوف يكل ويعجز ويرجع ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون في أعماله كلها مقتصداً .
ولهذا جاء في الحديث : ( إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى )(172) والمنبت الذي يمشي ليلاً ونهاراً دائماً ، هذا لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ، بل يتعب ظهره ، وبالتالي يعجز ويتعب ويحسر ويقعد .
فالاقتصاد في العبادة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي لك أيها العبد أن تشق على نفسك ، وأمش رويداً رويَداً ، كما سبق الحديث أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ، فعليك بالراحة ، ولا تقتصر ولا تزد ، فإن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم . أسأل الله أن يجعلني وإياكم من متبعي هديه الذين يمشون على طريقته وسنته .
* * *
144 ـ وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً . رواه مسلم(173) .
المتنطعون : المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما تقله عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) الهلاك : ضد البقاء ، يعني أنهم تلفوا وخسروا ، والمتنطعون : هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية ، ولهذا جاء في الحديث : ( لا تشددوا فيشدد الله عليكم )(174) .
وانظر إلى قصة بني إسرائيل حين قتلوا قتيلاً فادرؤوا فيه وتنازعوا حتى كادت الفتنة أن تثور بينهم ، فقال لهم موسى عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (البقرة:67) ، يعني وتأخذوا جزءاً منها فتضربوا به القتيل ، فيخبركم من الذي قتله ، فقالوا له (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ) يعني : تقول لنا اذبحوا بقرة واضربوا ببعضها القتيل ثم يخبركم عن قتله ؟ ولو أنهم استسلموا وسلموا لأمر الله وذبحوا أي بقرة كانت لحصل مقصودهم ، لكنهم تعنتوا فهلكوا ، قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ ثم قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ ثم قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما عملها ؟ وبعد أن شدد عليهم ذبحوها وما كادوا يفعلون .
كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك . ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى ولا سيما في رمضان حي يكون الله قد اباح له الفطر وهو مريض ويحتاج إلي الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم ، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشقاً ، فنحن نقول لهؤلاء : إن كان يسعكم ما وسع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأمسكوا ، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم ، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق .
مثال ذلك : يقول بعض الناس : إن الله عز وجل له أصابع ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء )(175) فيأتي هذا المتنطع فيبحث : هذه الأصابع كم عددها ؟ وهل لها أنامل ؟ وكم أناملها ؟ وما أشبه ذلك .
كذلك مثلاً : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الآخر )(176) ، يقول : كيف ينزل ؟ كيف ينزل في ثلث الليل وثلث الليل يدور على الأرض كلها ؟ معنى هذا أنه نازل دائماً ، وما أشبه ذلك الكلام الذي لا يؤجرون عليه، ولا يحمدون عليه، بل هم إلى الإثم أقرب منهم إلى السلامة وهم إلى الذم أقرب منهم إلى المدح .
هذه المسائل التي يكلف بها الإنسان ، وهي من مسائل الغيب ، ولم يسال عنها من هو خير منه ، وأحرص منه على معرفة الله بأسمائه وصفاته ، يجب عليه أن يمسك عنها ، وأن يقول : سمعنا وأطعنا وصدقنا وآمنا ، أما أن يبحث أشياء هي مسائل الغيب ، فإن هذا لا شك أنه من التنطع .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية ؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه . هذا غلط . خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية ، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان ، ولأورد عليها كل شيء ، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان ، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء ، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر ، وهو في عافية من ذلك . يذكر أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يتوضأ ، فإذا وجهه الأرض التي تحته ليس فيها إلا نقط من الماء ، من قلة ما يستعمل من الماء ، وبعض الناس تجده يشدد في الماء فيشدد الله عليه ، فإنه إذا استرسل مع هذه الوساوس ما كفاه أربع ولا خمس ولا ست ولا أكثر من ذلك ، فيسترسل مع الشيطان حتى يخرج عن طوره ، حتى يقول : هل أحد عاقل يتصرف هذا التصرف .
أيضاً في الاغتسال من الجنابة ، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال ، في إدخال الماء في أذنيه ، وفي إدخال الماء في منخريه ، وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) . فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث . والله الموفق .
* * *
145 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الذين يسر ، ولن يشاد الدين إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ابشروا ، استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة ) رواه البخاري (177).
وفي رواية له : ( سددوا وقاربوا اغدوا وروحوا ، وشيءٍ من الدلجة القصد القَصد تبلغوا ) (178).
قوله : ( الذين ) هو مرفوع على ما لم يسم فاعله . وروي منصوباً ، وروي : ( لن يشاد الدين أحد ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا غلبه ) أي: غلبه الدين ، وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه . (والغدوة ) سير أول النهار ، ( والروحة ): آخر النهار . ( والدلجة ) :آخر الليل . وهذا استعارة وتمثيل ، ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم ، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون ، وتبلغون مقصود كم ، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب . والله أعلم .
الشرح
ساق المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب القصد في العبادة حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ) يعني : الدين الذي بعث به الله محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يدين به العباد ربهم ويتعبدون له به يسر ، كما قال عز وجل ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة:185) ، وقال تعالى حين ذكره أمره بالوضوء والغسل من الجنابة والتيمم ـ عند العدم أو المرض ـ قال : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) (المائدة:6) ، وقال تعالى : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج:78) .
فالنصوص كلها تدل على أن هذا الدين يسر ، وهو كذلك .
ولو تفكر الإنسان في العبادات اليومية لوجد الصلاة خمس صلوات ميسرة موزعة في أوقات ، يتقدمها الطهر ؛ طهر للبدن وطهر للقلب ، فيتوضأ الإنسان عند كل صلاة ، ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فيطهر بدنه أولاً ثم قلبه بالتوحيد ثانياً ، ثم يصلي .
ولو تفكرت أيضاً في الزكاة ، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام ، تجد أنها سهلة ، فأولاً لا تجب إلا في الأموال النامية ، أو ما في حكمها ، ولا تجب في كل مال ، بل في الأموال النامية التي تنمو وتزيد كالتجارة ، أو ما في حكمها كالذهب والفضة وإن كان لا يزيد ، أما ما يستعمله الإنسان في بيته ، وفي مركوبه ، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة )(179) ، جميع أواني البيت وفرش البيت والخدم الذين في البيت ، والسيارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصة نفسه ، فإنه ليس فيه زكاة ، فهذا يسر .
ثم الزكاة الواجبة يسيرة جداً ، فهي ربع العشر ، يعني واحد من أربعين ، وهذا أيضاً يسير ، ثم إذا أديت الزكاة فإنها لن تنقص مالك ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ما نقصت صدقة من مال )(180) ، بل تجعل فيه البركة وتنميه وتزكيه وتطهره .
وانظر إلى الصوم أيضاً ، ليس كل السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة ، بل شهر واحد من أثنى عشر شهراً ، ومع ذلك فهو ميسر ، إذا مرضت فأفطر ، وإذا سافرت فأفطر ، وإذا كنت لا تستطيع الصوم في كل دهرك فأطعم عن كل يوم مسكيناً .
أنظر إلى الحج أيضاً ميسر ، قال تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (آل عمران:97) ومن لم يستطع : إن كان غنياً بماله أناب من يحج عنه ، وإن كان غير غني بماله ولا بدنه سقط عنه الحج .
فالحاصل أن الدين يسر ، يسر في أصل التشريع ، ويسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير ، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمران بن حصين : ( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب )(181) فالدين يسر .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه ) يعني : لن يطلب أحد التشدد في الدين إلا غلب وهزم ، وكل ومل وتعب ، ثم استحسر فترك ، هذا معنى قوله : ( لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه ) يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة ، فسوف يغلبك الدين ، وسوف تهلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق : ( هلك المتنطعون ) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فسددوا وقاربوا ابشروا ) ، سدد أي افعل الشيء على وجه السداد والإصابة ، فإن لم يتيسر فقارب ، ولهذا قال : ( وقاربوا )، والواو هنا بمعنى ( أو ) ، يعني سددوا إن أمكن ، وإن لم يمكن فالمقاربة . ( وابشروا ) يعني ابشروا أنكم إذا سددتم أصبتم ، أو قاربتم ، فابشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عز وجل ، وهذا يستعمله النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً يبشر أصحابه بما يسرهم ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إدخال السرور على إخوانه ما استطاع، بالبشارة والبشاشة وغير ذلك .
ومن ذلك أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما حدث أصحابه بأن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) فاشتد ذلك على الصحابة وقالوا : يا رسول الله ، آينا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا ، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ، ومنك رجل . ثم قال : والذي نفسي بيده ، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبرنا ، فقال : ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود )(182) .
وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل البشرى لإخوانه ما استطاع . ولكن أحياناً يكون الإنذار خيراً لأخيه المسلم ، فقد يكون أخوك المسلم في جانب تفريط في واجب ، أو انتهاك لمحرم ، فيكون من المصلحة أن تنذره وتخوفه . فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الحكمة ، ولكن يغلب جانب البشري ، فلو جاءك رجل مثلاً وقال : إنه أسرف على نفسه ، وفعل معاصي كبيرة ، وسأل هل له من توبة ؟ فينبغي لك أن تقول : نعم أبشر ، إذا تبت تاب الله عليك ، فتدخل عليه السرور ، وتدخل عليه الأمل حتى لا ييأس من رحمة الله عز وجل .
الحاصل أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : ( سددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصد القَصد تبلغوا ) يعني معناه : استعينوا في أطراف النهار ؛ وأوله وآخره ، وشيء من الليل ( والقصد القصد تبلغوا ) هذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلاً للسفر المعنوي بالسفر الحسي ، فإن الإنسان المسافر حساً يبتغي له أن يكون سيرة في أول النهار وفي آخر النهار وفي شيء من الليل ، لأن ذلك هو الوقت المريح للراحلة وللمسافر ، ويحتمل أنه أراد بذلك أن أول النهار وآخره محل التسبيح ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب:41،42)، وكذلك الليل محل للقيام .
وعلى كل حال فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمرنا أن لا نجعل أوقاتنا كلها دأباً في العبادة ، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية . أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته .
* * *
146 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ( ما هذا الحبل ؟ ) قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) متفق عليه(183) .
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يعني المسجد النبوي ـ فإذا حبل ممدود بين ساريتين ، أي بين عمودين ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا حبل لزينب تربطه ، فإذا تعبت من الصلاة تعلقت به من أجل أن تنشط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (حلوه ) يعني أخروه وأزيلوه . ثم قال : ( ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) .
ففي هذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعمق وأن يتنطع في العبادة ، أن يكلف نفسه ما لا تطيق ، بل يصلي ما دام نشيطاً ، فإذا تعب فليرقد ولينم ، لأنه إذا صلى مع التعب تشوش فكره وسئم ومل وربما كره العبادة ، وربما ذهب ليدعو لنفسه فإذا به يدعو عليها ، فلو سجد وأصابه النعاس ربما أراد أن يقول : رب اغفر لي ، قال : رب لا تغفر لي ، لأنه نائم ، فلهذا أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحل هذا الحبل ، وأمرنا أن يصلي الإنسان نشاطه ، فإذا تعب فليرقد .
وهذا وإن ورد في الصلاة فإنه يشمل جميع الأعمال ، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق ، بل عامل نفسك بالرفق واللين ، ولا تتعجل الأمور، الأمور ربما تتأخر لحكمة يريدها الله عز وجل ، لا تقل أنا أريد أن أتعب نفسي ، بل انتظر وأعط نفسك حقها ، ثم بعد ذلك يحصل لك المقصود .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة ، حيث تجده مثلاً يطالع في دروسه وهو نعسان ، فيتعب نفسه ولا يحصل شيئاً ، لأن الذي يراجع وهو نعسان لا يستفيد ، وإن ظن أنه يستفيد فإنه لا يستفيد شيئاً أبداً ؛ ولهذا ينبغي على الإنسان إذا أصابه النعاس وهو يراجع كتباً ـ سواء كتباً منهجية أو غير ذلك ـ ينبغي له أن يغلق الكتاب ، وأن ينام ويستريح .
وهذا يعم جميع الأوقات ، حتى لو فرض أن الإنسان أصابه النعاس بعد صلاة العصر وأراد أن يرقد ويستريح فلا حرج ، أو بعد صلاة الفجر وأراد أن يرقد ويستريح فلا حرج ، كلما أتاك النوم فنم ، وكلما صرت نشيطاً فاعمل ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7،8، كل الأمور اجعلها بالتيسير ، إلا ما فرض الله عليك فلابد أن يكون في الوقت المحدد له ، وأما الأمور التطوعية فالأمر فيها واسع ، لا تتعب نفسك في شيء . نسأل الله أن يعيني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته .
* * *
147 ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلي وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) متفق عليه(184) .
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فليرقد حتى يذهب عنه النوم ) النعاس هو فترة في الحواس يكون نتيجة غلبة النوم ، فلا يستطيع الإنسان معه أن يتحكم في حواسه ، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من غلب عليه النعاس وهو يصلي أن ينصرف من صلاته ، ولا يصلي وهو ناعس ، ثم علل ذلك بقول :فإن أحدهم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسيب نفسه بدل أن يقول : اللهم اغفر لي ذنبي أو ما أذنبت ، يذهب يسب نفسه بهذا الذنب الذي أراد أن يستغفر الله منه ، وكذلك ربما أراد أن يسال الله الجنة فيسأله النار ، وربما أراد أن يسال الهداية فيسأل ربه الضلالة وهكذا ، لهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقد .
ومن حكم ذلك أن الإنسان لنفسه عليه حق ، فإذا أجبر نفسه على فعل العبادة مع المشقة فإنه يكون قد ظلم نفسه ، فأنت يا أخي لا تفرط فتقصر ، ولا تفرط فتزيد .
ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يحمل نفسه ويشق عليها في العبادة ، وإنما يأخذ ما يطيق . والله الموفق .
* * *
148 ـ وعن أبي عبد الله جابر بن سمرة ـ رضي الله عنهما ـ قال : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات ، فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً ) رواه مسلم(185) .
قوله : ( قصداً ) أي بين الطول والقصر .
الشرح
حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما ، قال إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أنه يريد الجمعة ، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً ، والقصد معناه التوسط ، الذي ليس فيه تخفيف مخل ولا تثقيل ممل ، وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه )(186) أي علامة على فقهه ودليل عليه ، ويؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يجمل نفسه ويشق عليها في العبادة ، وإنما يأخذ ما يطيق . والله الموفق .
* * *
149 ـ وعن أبي جحبفة وهب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال : ما شأنك : قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا . فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له : كل فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له : نم ،فنام . ثم ذهب يقوم فقال له : نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن . فصلينا جميعاً ، فقال له سلمان :إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : ( صدق سلمان ) . رواه البخاري (187).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما جميعاً ، آخى بينهما : أي عقد بينهما عقد أخوة ، وذلك أن المهاجرين حين قدموا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار ، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، فكان المهاجرون في هذا العقد للأنصار بمنزلة الأخوة ، حتى إنهم كانوا يتوارثون بهذا العقد ، حتى أنزل الله عز وجل : ( وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (الأنفال:75) .
فجاء سلمان ذات يوم ودخل على دار أخيه أبي الدرداء رضي الله عنه ، فوجد امرأته أن الدرداء متبذلة ، يعني ليست عليها ثياب المرأة ذات الزوج ، بل عليها ثياب ليست جميلة ، فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليس له شيء من الدنيا ، يعني أنه معرض عن الدنيا ، وعن الأهل ، وعن الأكل ، وعن كل شيء .
ثم إن أبا الدرداء لما جاء صنع لسلمان طعاماً ، فقدمه إليه وقال : كل فإني صائم ، فقال له : كل وأفطر ولا تصم ، لأنه علم من حاله بواسطة كلام زوجته أنه يصوم دائماً ، وأنه معرض عن الدنيا وعن الأكل وغيره ، فأكل ثم نام ، فقام ليصلي ، فقال له سلمان : نم ، فنام ، ثم قام ليصلي ، فقال : نم ولما كان آخر الليل قام سلمان ـ رضي الله عنه ـ وصليا جميعاً .
وقوله صليا جميعاً : ظاهره أنهما صليا جماعة ، ويحتمل أنهما صليا جميعاً في الزمن وكل يصلي وحده . وهذه المسألة ـ أعني الصلاة جماعة في صلاة الليل ـ جائزة، لكن لا تفعل دائماً ، وإنما تفعل أحياناً ، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل جماعة مع ابن عباس رضي الله عنهما ، ومع حذيفة بن اليمان ، ومع عبد الله بن مسعود ، ولكن العلماء يقولون : إن هذا يفعل أحياناً لا دائماً .
ثم قال له سلمان : ( إن لنفسك عليك حقاً، وأن لأهلك عليك حقاً ، وإن لربك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه ) وهذا القول الذي قاله سلمان هو القول الذي قاله النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمر بن العاص رضي الله عنهما .
ففي هذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكلف نفسه بالصيام والقيام ، وإنما يصلي ويقوم على وجه يحصل به الخير ، ويزول به التعب والمشقة والعناء . والله الموفق .
* * *
151 ـ وعن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب ، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة ! قال : سبحان الله ! ما تقول ؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً . قال أبو بكر رضي الله عنه : فو الله لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما ذاك ؟ ) قلت : يا رسول الله ، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسبنا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظة ساعة وساعة ) ثلاث مرات ،رواه مسلم (188).
قوله : ربعي ) بكسر الراء . ( والأسيدي ) بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة وقوله : (عافسنا ) هو بالعين والسين المهملتين ، أي عالجنا ولا عبنا . ( والضيعات ) : المعايش .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن حنظلة الكاتب ، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه قال : لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقلت : نافق حنظلة ، يعني نفسه ، ومعنى نافق : يعني صار من المنافقين ، قال ذلك ظناً منه ـ رضي الله عنه ـ أن ما فعله نفاق ، فقال أبو بكر : وما ذاك ؟ فقال رضي الله عنه : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر بالجنة والنار حتى كأنا رأى عين ، يعني كأنما نرى الجنة والنار رأى عين من قوة اليقين ، حيث يخبرهم بذلك صلى الله عليه وسلم ، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كالمشاهد ، بل قد يكون أعظم ؛ لأنه خبر من اصدق الخلق صلوات الله وسلامه عليه ، وأعلم الخلق بالله .
فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، يعني لهونا معهم ونسينا ما كنا عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر عن نفسه أنه يصيبه كذلك ، ثم ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وصلا إليه قال حنظلة : نافق حنظلة يا رسول الله ، قال : وما ذاك ؟ فأخبره بأنهم إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فحدثهم عن الجنة والنار ، أخذهم من اليقين ما يجعلهم كأنهم يرونهما رأي العين ، ولكن إذا خرجوا عافسوا الأهل والأولاد والضيعات وتلهوا بهم نسوا كثيراً .
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده ، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ) أي من شدة اليقين تصافحكم إكراماً لكم وتثبيتاً لكم ؛ لأنه كلما زاد يقين العيد ، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويقويه ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17)، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ، ساعة وساعة . ساعة وساعة ) يعني ساعة للرب عز وجل ، وساعة مع الأهل والأولاد ، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم .
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها ، أن الله عز وجل له حق فيعطي حقه عز وجل ، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها ، وللأهل حق فيعطون حقوقهم ، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم ، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة ، ويتعبد لله عز وجل براحة ، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب ، وأضاع حقوقاً كثيرة .
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف ، يكون كذلك أيضاً في العلوم ، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما ، فلينتقل إلى كتاب آخر ، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين ، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر ، وهكذا يريح نفسه ، ويحصل علماً كثيراً . أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف ، إلا ما شاء الله ؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب ، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له ، ويكون ديدناً له ، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره ، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
152ـ وعن أبن عباس رضي الله عنهما قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم ، فسال عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ولا يصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه ) رواه البخاري (189).
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب الاقتصاد في العبادة هذا الحديث ؛ الذي نذر فيه رجل يقال له أبو إسرائيل ؛ أن يقوم في الشمس ولا يقعد ، وأن يصمت ولا يتكلم ، وأن يصوم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فرأى هذا الرجل قائماً في الشمس ، فسأل عنه فأخبر عن قصته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) .
وهذا النذر كان قد تضمن أشياء محبوبة إلى الله عز وجل ، وأشياء غير محبوبة ، أما المحبوبة إلى الله فهي الصوم ؛ لأن الصوم عبادة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه )(190) ، وأما وقوفه قائماً في الشمس من غير أن يستظل ، وكونه لا يتكلم ؛ فهذا غير محبوب إلى الله عز وجل ، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يترك ما نذر .
وليعلم أن النذر اصله مكروه ، بل قال بعض العلماء : أنه محرم ، وأنه لا يجوز للإنسان أن ينذر ؛ لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال ( إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل )(191) ، ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام: قسم حكمه حكم اليمين ، وقسم آخر نذر معصية ، وقسم ثالث نذر طاعة .
أما الذي حكمه حكم اليمين ، فهو الذي قصد الإنسان به تأكيد الشيء ؛ نفياً أو إثباتاً أو تصديقاً أو تأكيداً ، ومثاله : إذا قيل للرجل أخبرتنا بكذا وكذا ولكنك لم تصدق ، فقال : إن كنت كاذباً فلله على نذر أن أصوم سنة ، فلا شك أن غرضه من ذلك أن يؤكد قوله ليصدقه الناس ، هذا حكمه حكم اليمين ؛ لأنه قصد بذلك تأكيد ما قال ، وكذلك أيضاً إذا قصد الحث ؛ مثل أن يقول : إن لم افعل كذا فلله على نذر أن أصوم سنة ، فهذا أيضاً قصد الحث وأن يفعل ما ذكر ، حكمه حكم اليمين أيضاً ، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى )(192) ، وهذا نوى اليمين فله ما نوى .
أما القسم الثاني : فهو المحرم فالمحرم إذا نذره الإنسان يحرم عليه الوفاء به ، مثل أن يقول : لله عليه نذر أن يشرب الخمر ، فهذا نذر محرم، فلا يحل له أن يشرب الخمر ، ولكن عليه كفارة يمين على القول الراجح ، وإن كان بعض العلماء قال : إنه لا شيء عليه ، لأنه غير منعقد ، ولكن الصحيح أنه نذر منعقد ، ولكن لا يجوز الوفاء به ، ومثل ذلك أن تقول المرأة : لله عليها نذر أن تصوم أيام حيضها ؛ فهذا حرام ، ولا يجوز أن تصوم أيام الحيض ، وعليها كفارة يمين .
أما القسم الثالث : فهو نذر الطاعة ، أن ينذر الإنسان نذر طاعة ، مثل أن يقول : لله على نذر أن أصوم الأيام البيض ؛ وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، فيلزمه أن يوفي بنذره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) ، أو يقول : لله علي نذر أن اصلي ركعتين في الضحى ، فيلزمه أ