دروس في التوحيد
الدرس الأول
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين العاصين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم .ه
أما بعد:ه
خلق الله سبحانه وتعالى الثقلين الجن والإنس لحكمة بالغة ، فلم يخلقهم عبثًا ولا سدى ولا ليأكلوا أو يشربوا ولا لغير ذلك من مهمات الدنيا ، بل خلق كل شئ في هذا الكون لحكمة عِلِمَهَا من علِمها وجهلها من جهلها ، وخلق سبحانه للعباد قدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم ، لم يجبرهم على شئ منها بل جعلهم مختارين لها ، وخصَّ المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته ، فالخلق خلقوا لواحد ، وهو الله عز وجل ، خلقوا لعبادته ، لتتعلق قلوبهم به تألهًا ، وتعظيمًا ، وخوفًا ، ورجاءً ا ، وتوكلاً ، ورغبةً ، ورهبةً كما قال سبحانه : \" وَمَاَ خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونْ \" (الذاريات/56) ، ه
والتوحيد هو أساس دعوة الرسل وأصل الأصول ، وهو أول ما يُدخل به إلى الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأبي داود : \" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة \" . ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين وهما :ه
على أن يُعبد الله وحده لا شريك له . ه
وعلى أن يُعبد اللهُ بما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم . وهذان هما حقيقة قولنا ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) .ه
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : \" والتوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره ، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ، كما قال الله : \" وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ \" (الزخرف/45) . وقال تعالى : \" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ \" (الأنبياء / 25) أهـ .ه
تعريف التوحيد: ه
التوحيد في اللغة : مشتق من وحّد الشئ إذا جعله واحدًا ، فهو مصدر وحَّد يوحد ، أي : جعل الشئ واحدًا . ه
التوحيد في الاصطلاح : إفراد الله – عز وجل – بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات . ه
أقسام التوحيد : ه
توحيد الربوبية . ه
توحيد الألوهية . ه
توحيد الأسماء والصفات ه
وقد اجتمعت في قوله تعالى : ه
\" ربُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتَهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا \" ( مريم /65) .ه
أولاً : توحيد الربوبية : - ه
هو إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير .ه
إفراد الله عز وجل بالخلق :- ه
أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله . قال تعالى : \" هَلْ مِنْ خَاَلِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَمَاءِ وَاَلأَرَضِ \" . ( فاطر)/3 . ه
وقال سبحانه وتعالى : \" أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَاَلأَمْرُ \" ( الأعراف /54) . فالخلق وإيجاد الشئ من العدم هو من اختصاص الخالق سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحدًا من خلقه ، ومن أوجد شيئاً أو صنع شيئًا فإنما يصنعه من مادةٍ خَلقَهَا اللهُ _عز وجل _ ، وهذا إنما هو تحويل للشئ من حال إلى حال ، وهو محصور بما يتمكن الإنسان منه ، وأما الخالق سبحانه وتعالى فإنه لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ، وهو كما قال سبحانه عن نفسه : \" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ \" ( يس /82) . ه
وأما أهل الأرض فلو اجتمعوا جميعًا على أن يخلقوا حبة أو ذرة (وهي واحدة النمل) ما استطاعوا كما جاء ذلك في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله – عز وجل _ : \" ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة \" ، وفي الحديث دلالة واضحة على انفراد الله –عز وجل- بالخلق ، ولا يشك في ذلك من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان . ه
وأما إفراد الله – عز وجل - بالملك : ه
بأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم قال تعالى : \" وَلِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَوَاتِ وَاَلأَرْضِ \" ( آل عمران /189) . وقال تعالى : \" قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَئٍ \" (المؤمنون/88) . ه
فالإنسان يملك ولكنه يملك ما بيده ولا يملك ما بيد غيره ولا يملك أيضًا ما عنده تمام الملك فلا يتصرف فيه إلا حسب ما أُذن له شرعًا فلو أراد مثلاً أن يحرق ماله فليس له ذلك ولا يجوز له ذلك ولكن الله –عز وجل- يملك كل شئ ملكًا عامًا شاملاً . ه
وأما إفراد الله- عز وجل - بالتدبير : ه
بأن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده ، كما قال تعالى : \" قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَّ اَلْسَمَاءِ وَاَلأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلْسَّمْعَ وَاَلأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ اَلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل أَفَلاَ تَتَّقُونَ \" (يونس/31) . [ وأما تدبير الإنسان فمحصور بما تحت يده وبما أذن له فيه شرعًا ] . ه
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : \" وأما النوع الثاني فالشرك في الربوبية ، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر ، المعطي المانع ، النافع الضار ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، فمن شهد أن المعطي ، أو المانع ، أو الضار ، أو النافع ، أو المعز ، أو المذل ، غيره ، فقد أشرك بربوبيته . ولكن إذا أراد أن يتخلص من هذا الشرك ، فلينظر إلى المعطي الأول ، فيشكره على ما أولاه من النعم ، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف ، فيكافئه عليه ، لقوله عليه السلام \" من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه \" فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة ، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده ، ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما \" احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لن ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لن يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف \" وهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله ، ولا يضر غيره ، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية فمن سلك هذا المسلك استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وتجرَّد التوحيد في قلبه ، فقوي إيمانه ، وانشرح صدره ، وتنوَّر قلبه ، ولهذا قال الفضيل بن عياض \" من عرف الناس استراح \" يريد والله أعلم \" أنهم لا ينفعون ولا يضرون \" . ه
وهذا النوع من التوحيد لم يعارض عليه حتى المشركون بل كانوا مقرون فيه ، قال تعالى : \" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ اَلسَمَوَاتِ وَاَلأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيِزُ اَلْعَلِيِمُ \" (الزخرف/9) . ه
ولكن المشركين ضلوا في توحيد الألوهية والذي يسمى أيضًا بتوحيد العبادة وهو أصل التوحيد فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم وأراضيهم وسبى نساءهم وذريتهم ، ومن أخل بهذا التوحيد وإن أقر بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات فهو مشرك كافر قال تعالى \" ألاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الَّلهِ زُلْفَى ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيِمَا هُمْ فِيِهِ يَخْتَلِفُون ، إِنَّ اَللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار \" (الزمر/3) .ه
ثانيًا : توحيد الألوهية : هو إفراد الله –عز وجل- بالعبادة فلا نعبد إلا الله ولا ندعوا إلا الله ولا نرجوا إلا الله ولا نستغيث إلى بالله ولا نسجد إلا لله ، فنعبده سبحانه بما شرع ، فلا نبتدع أموراً نتعبد بها ، والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيميه : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . قال تعالى : \" يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونْ \" (البقرة/21) .وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق ، والله سبحانه وتعالى أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، وخلق السماوات والأرض ليُعرف ويُعبد ويوحَّد ، ويكون الدين كله لله والطاعة كلها له والدعوة له ، وهذا أصلٌ عظيم لما جهله الناس وتساهلوا به – إلا من رحم الله – وقعوا في الشرك الأكبر - والعياذ بالله - وذلك بأنهم اتخذوا كثيرا من الأموات آلهة من دون الله يعبدونهم ، ويطوفون بقبورهم ، ويستغيثون بهم ، ويسألونهم قضاء الحاجات ، وغير ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله – عز وجل-. ه
توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله –عز وجل – بما له من الأسماء والصفات وذلك بأن نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم وننفي عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل . قال تعالى : \" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهُوَ اَلْسَّمِيِعُ اَلْبَصِيِرُ \" (الشورى/11) .ه
ولهذا النوع من التوحيد أسس ، من حاد عنها لم يكن موحدًا لربِّه في الأسماء والصفات : ه
الأساس الأول: تنزيه الله عن مشابهته الخلق ، وعن أي نقص .ه
الأساس الثاني: الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة ، دون
تجاوزها بالنقص منها أو الزيادة عليها أو تحريفها أو تعطيلها .ه
الأساس الثالث: قطع الطَّمع عن إدراك كيفية هذه الصفات . ه
كما أنه هناك شروط يجب على كل مسلم أن يحققها لكي يحقق كلمة التوحيد التي هي (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله) وهذه الشروط هي:-ه
1-العلم : ودليله قول الله تعالى : \" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ \" وقوله صلى الله عليه وسلم \" من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة \" .ه
2-اليقين : وضده الشك والتَّوقُّف ، وذلك بمعنى أنه من أتى بالشهادتين فلا بد أن يوقن بقلبه ويعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله تعالى وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبطلان ما عدا ذلك . ه
3-القبول المنافي للرَّد : ذلك أن هناك من يعلم معنى الشهادتين ويوقن بمدلولهما ، ولكنه يردُّهُما كبرًا وحسدًا ، كعلماء اليهود والنصارى .ه
4-الانقياد: وهو الاستسلام والإذعان وعدم التَّعَقُّب بشئ من أحكام الله تعالى .ه
5-الصدق : ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم : \" من قال لا إله إلا الله صادقًا من قلبه دخل الجنة \" ، وهذا يدل على أن من قالها بلسانه وأنكر مدلولها بقلبه فإنها لا تنجيه ، وذلك حال المنافقين .ه
6-الإخلاص : ودليله قول الله تعالى :\" فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ \" (الزمر/2) وقوله صلى الله عليه وسلم :\" أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه \" .ه
7-المحبة لله ورسوله : وذلك بأن نحب كل ما يحبه الله ورسوله من الأعمال والأقوال ، وكذلك بأن نحب أوليائه وأهل طاعته . ه
8-الكفر بما يُعبد من دون الله : وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : \" من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حَرُمَ مَالُهُ ودمه \" .ه
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كبيرا