بقلم : محمد حاج عيسى الجزائري / قسم الدكتوراه في أصول الفقه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
القول بعصمة الأئمة مشهور عند الشيعة:
فمن الضلالات التي سرت في عموم الأمة وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم اعتقاد العصمة في الأئمة والصالحين، وقد كان هذا الداء فيما مضى والزمن الأول مشهورا عن الشيعة الذين كانوا من أوائل الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة، حيث فارقوا الجماعة لأجل الأصل المصطنع الذي بنوا عليه عقيدتهم ثم الولاء والبراء وهو الإمامة، ولم يلبثوا أن زادوا على ضلالتهم الأولى القاضية بأن الإمامة أو الخلافة تكون بالنص في نسل علي رضي الله عنه، حتّى زادوا عليها أصلا آخر هو القول بالعصمة لهؤلاء الأئمّة.
معنى العصمة عندهم :
ومعنى العصمة عندهم هو عدم الخطأ في القول والعمل، وأنهم مهما قالوا وفعلوا وأخبروا فأقوالهم صائبة وأوامرهم شرائع متبعة، لا تجوز مخالفتها بل أفعالهم حجة لا يعترض عليها، وخبرهم صدق لا يجوز عليه الخطأ ولا الكذب، وهذا الأمر ليس لأحد عند أهل السنة إلاّ للرسول صلّى الله عليه وسلّم، الذي طاعته واتباعه فرض ثابت بالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى، ومن أثبتها لغير الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندهم فهو من الضلال قطعا، ومشابه لأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وتفسير ذلك كما في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم أطاعوهم في كل ما قالوه، حيث إنّهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال؛ وهم يتّبعونهم في ذلك، والعصمة عند أهل السنة لم تثبت بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا لمجموع العلماء في المسائل الشرعية، فلا تجتمع الأمة على ضلالة لأن الله تعالى قضى ببقاء الحجة قائمة على الناس في كل زمان فقال صلّى الله عليه وسلّم:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " متفق عليه.
انتقال هذا الداء إلى طوائف كثيرة من المنتسبين إلى السنة :
ثم إن هذا المرض والداء العضال قد انتقلت عدواه إلى طوائف كثيرة من المنتسبين إلى السنة المخالفين للشيعة، انتقل إليهم وتبنوه من غير تسمية له بالتسمية الصريحة وهي القول بالعصمة، ولكن بتسميات وأغطية ومسوغات تختلف من طائفة إلى أخرى، والذي نرمي إليه هنا ليس هو نقد المبدأ الشيعي المفضوح، ولكن المقصد كشف تلك التسميات والشعارات التي لبس بها على المنتسبين إلى السنة، وأول ما نبدأ به وهو أخفها بالنسبة لما يأتي هو:
بدعة التقليد العام
بدعة التقليد العام التي غرقت فيه الأمة في العصور المتأخرة عن عصر السلف الصالح، حيث أصبح الأئمة الكبار المتبوعون في عصر السلف مقدسين في عصر الخلف ومرفوعين إلى مراتب فاقت مراتب الصحابة رضي الله عنهم، بل أعلى من ذلك حيث أصبح يَكْبُر على أكثر الناس المنتسبين إلى أبي حنيفة أن يقال أخطأ أبو حنيفة، وكذا المنتسبين إلى مالك وغيره، ولا يكبر عليهم أن يردوا سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقول فلان وعلان، وإذا قيل لأحدهم هذه سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيحة، يقول وهل كان يجهلها الإمام فلان وهل غابت عن علان ؟ وخَلَّد هذا الواقع المنذر بن سعيد البلوطي إذ نظم في ذلك أبياتا تناقلها الناس بعده إلى يومنا هذا حيث قال:
عـذيـري من قوم يقولون كلمـا طلبت دليـلا : هكــذا قـال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهـب وقـد كـان لا تخفى عليـه المسالك
فـإن زدت قـالوا : سحنون مثلـه ومـن لـم يقل ما قالـه فهـو آفك
فإن قلت: قال الله ضجوا وأكـثروا وقالوا جميعـا أنت قــرن مماحــك
وإن قلت : قـال الرسـول فقولهم أتت مالكـا في تـرك ذاك المسالـك
أكثر المقلدة يدينون بنوع من العصمة في حق الأئمة
فيضطر الناصح المعلم أن يذكر هؤلاء بأن الأئمة غير معصومين وأنهم يصيبون ويخطئون جميعا، والشاهد من هذا أن أكثر المقلدة في الأزمنة المتأخرة يدينون بنوع من العصمة في حق الأئمة الذين ينتسبون إليهم، حيث يجعلون ما قاله إمامهم صوابا دائما وأبدا، وما خالفه فيه غيره من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين خطأ دائما وأبدا، وهذا النوع من التفكير من الأمراض التي نحن مطالبون بعلاجها إن أردنا للأمة أن تنهض في ميدان الفقه والتشريع، ولقد نادى بذلك الأئمة الأعلام والمصلحون الكبار فهل من مجيب ؟ وإلى متى الغفلة ؟
الاعتقاد الفاسد في أصحاب الطرق
ومن مظاهر القول بالعصمة أيضا ما اشتهر عند المتأخرين، خاصة في عصور الانحطاط وانتشار الخرافات من الاعتقاد الفاسد في أصحاب الطرق، الذين ابتدعوا في الدين عبادات وأذكارا ما أنزل الله بها من سلطان ألزموا بها مريد النجاة، وجعلوها هي الطريق الموصل إلى بر الأمان، كما بثوا في الناس من القصص الخرافي والدعاوى العريضة لأنفسهم ولمشايخهم؛ ما انبهرت له عقول العامة حتى اعتقدوا فيهم العصمة، يقال لكثير من الناس في هذا الزمان: هذا شرك صاحبه مخلد في النار لقول الله تعالى كذا .. ولقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا.. فيقول ذلك المريض: ولماذا لم ينهنا عن ذلك المشايخ !!؟ بل هم الذين كانوا يشجعون ذلك ؟ والأمر نفسه يقال إذا نهوا عن تلك العبادات والأوراد، فإنه ليس لهم جواب سوى أن الشيخ أعرف وأنه لا تخفى عليه هذه الأمور، وهذا الذي وصفنا هو عقيدة العصمة المبسطة عند أكثر العامة في الصالحين، وفي من سموهم بالصالحين وليسوا كذلك، وإلاّ فهناك من ينظِّر لهذه العقيدة الباطلة، ويستدلّ لها خاصّة هؤلاء الذين يدَّعون الكشف ورؤية الله تعالى أو رسوله، فهؤلاء خلعوا جلباب الحياء وصرحوا بالعصمة لمن يقول حدثني قلبي عن ربي، ولمن يقول ها هو حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد حل بيننا فافسحوا له الطريق، ويوجد فيهم من يحل الحرام المعلوم قطعا لنفسه خاصة أو للناس ويحرم الحلال المعلوم قطعا، والناس يصدقونه ويكذبون ما يعلمون أنه قد جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأن الشيخ لا يكذب ولا يخطئ.
عصمة "القيادة الرشيدة" وطاعة "القاعدة المطيعة"
ومن مظاهر القول بالعصمة أيضا ما هو حادث في زمان النهضة والصحوة داخل التنظيمات الإسلامية العاملة على الساحة -أو التي يفترض فيها ذلك-، حيث تجد أن أكثر من يمثل "القاعدة المطيعة"!! يعتقد في "القيادة الرشيدة"!! أنها لا تخطئ البتة، ومهما حدثت من نتائج فإن ذلك قضاء وقدر ومن طبيعة الطريق المليء بالابتلاءات !! ومهما صدرت من القياديين من تصرفات وتصريحات مصادمة لتعاليم الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، فإنه لا بد أن يكون لذلك مبرراته (أو مسوغاته) التي لم نطلع عليها!!يقولون عندهم معطيات هي غائبة عنا ..هكذا هو حال المريدين الجدد مع المشايخ المعاصرين، يطبق المريد عندهم كل طرق الاعتراض على الكتاب والسنة ما ذكره الجدليون وما لم يذكروا، وتتعطل كل خلاياه الفكرية أمام تعليمات وتوجهات وتصريحات "الإمام المعصوم"، لأنهم خُدِّروا بعقيدة الانضباط (أو اعتقد ولا تنقتد)، وفكرة القاعدة المطيعة (أو كن في التنظيم مع قيادييك كما يكون الميت بين يدي مغسله)، وأسطورة من خالف القيادة (أو الشيخ) أو انتقدها أو فارقها ابتلي بسوء الخاتمة..!!
تعليل غريب للانحراف:
إننا نقف مطولا مستغربين مندهشين من تلك الطاعة العمياء التي حظي بها هؤلاء الرؤوس المنقلبون الذين أضحى كثير منهم ذيولا، خاصة من غرق منهم في أوحال اللعب السياسية، رغم ما يصدر منهم من انحرافات لا يقرها الشرع ولا العقل، ولقد حدثني الثقة أن دكتورا في الحديث(زعموا) تحدث يوما إلى "القاعدة المطيعة" عن قرارات "السيد المعصوم" ومثلها بأحكام جهابذة الحديث الذين كانوا يقولون:" علم الحديث عند العامة كهانة". حيث إن المحدثين كانوا يحكمون على الحديث بمقتضى نظر لا يتأتى لمن كان غريبا عن هذا العلم غير ممارس له، لذلك فالعامة يقولون أنى للمحدث أن يعرف أن هذا الحديث خطأ وأنه أخطأ فيه فلان، وعدم فهم العامة لتصرف المحدِّث لا يجعله مخطئا، ويفرع على ذلك الدكتور المريد بأن للسيد المعصوم نظرا في السياسة هو من جنس نظر المحدثين وأنتم لم تصلوا بعد إلى فهم كل أصول اللعبة، وستبدي لكم الأيام أنه لا بديل عن هذه السياسة الجديدة ، ولقد كنا نصدقه بعض الشيء لو تعلق الأمر بقضايا يمكن وصفها بالسياسية شرعا، لكن الأمر متعلق بالمبادئ التي نسميها في المصطلح الشرعي العقائد أو ثوابت المنهج، وإننا ننظر بعين الرأفة لهذه القاعدة التي خدعوها بالأسماء والشعارات وبالرموز الزائفة التي صنعت مجدها أيام غفلة الناس ودنو الهمم، والتي غرسوا فيها عقائد الشيعة وغلاة الصوفية التي صرفتهم عن الهدف الذي لأجله شمروا، وعن الغاية التي لأجلها انخرطوا في هذه التنظيمات التي أصبحت مشبوهة- في بعض الأحيان-
حاجة الناس إلى من يحرر عقولهم من الأغلال :
وإن هؤلاء الناس بحاجة اليوم إلى دعاية وتبشير بالفكر الإصلاحي السلفي من جديد إذ هو المحرر للعقول من أغلال هذه الطرقية الجديدة التي أدت إلى إفراغ العمل الإسلامي من كل محتواه، وهو الذي ينور لها الطريق ويرشدها إلى الرجوع إلى طاعة المعصوم الحق سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وتقديم طاعته على من سواه. قلت إصلاحيا سلفيا لأن كثيرا من الكتاب مع الأسف يكرسون مبدأ العصمة أيضا في حق بعض الدعاة والقادة الكبار، ومن أعجب ما قرأت في هذا قول أحد المفكرين وهو يرجح منهج إمامه بأن الله هو الذي ألهمه الاهتداء إليه!! وهو ما يسميه آخر إشراقة ربانية، ورأيت ثالثا يؤصَّل مبدأ عدم المحاسبة وأن القيادات لا تُسأل عما تفعل بقوله :" فلا يمكن للقيادات على طول الخط أن تكشف حوارها حين تقرر مثل هذه الخطوات القائمة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ذلك أنها تعتمد على أسرار لا يسوغ كشفها ، أو تبريرات مضمرة لا تريد أن يتسرب علمها إلى أعداء الإسلام ".
التحذير من تقديس الدعاة والمشايخ وما يفضي إليه من مفاسد :
وحتى يكون التصوير للحالة الإسلامية شاملا ولا محاباة فيه نسلط بعض الضوء على بعض العناصر الجديدة في رحاب الالتزام بالشرع والمنتسبة اسما ورسما إلى السلفية ولما تدخل السلفية إلى قلوبهم، إذ يسري فيهم اليوم في كثير من الجهات داء التقديس لبعض الدعاة الذين قد يكون لهم عليهم بعض الفضل أو كله في الهداية أو التعليم، ولبعض المشايخ الذين أحيطوا بهالة إعلامية منقطعة النظير، فهي منساقة عاطفيا إلى الغلو فيهم أو الدفاع عنهم وقد يصل بهم الحال إلى عقد الولاء والبراء فيهم، وقد ترى فيهم من يصبر على سماع من يسب دين الله تعالى جهرا ولا يتحرك لسانه -وربما ولا قلبه-، وإذا ذكر شيخه المغوار الذي لا يشق له غبار أرغى وأزبد ورفع صوته وربما يده، يصف المخالف لشيخه بأبشع الأوصاف والنعوت، ولا يرضى أبدا أن يقال له: شيخك أخطأ ! ألا إنها صوفية جديدة أيضا، ترى من يعايشها يترحم على مقلدة الإمام مالك والمتعصبة للشيخ خليل لأنه كما قيل: شتان بين الثرى والثريا.
ولقد قلت فيما سبق إن أخف حالات هذا الداء اعتقاد عصمة الفقهاء، رغم أنه في حد ذاته إن نظرنا إلى آثاره الوخيمة التي جنتها على الأمة الإسلامية اليوم -وعلى رأسها تعطيل الشريعة الإسلامية - يُعتبر وباء وليس مجرد داء، ولكن هو كذلك بالنظر إلى حال من يُعتقد فيه العصمة من شيوخ الطرق الجاهلين والمشعوذين الذين نالوا تلك المراتب بنسب صحيح أو مدعى أو بالوصية وغيرها، ومن يجعلها لأصحاب التنظيمات الذين يعتلون تلك المناصب بالأقدمية أو ببعض المواقف التاريخية، التي أكسبته شعبية أكثر من شعبية غيرهم، وكذا كل من يجعل هذه العصمة لغير عالم فقيه من الفقهاء، ولأن العالم بالكتاب والسنة على الأقل يجوز تقليده للعامة من غير اعتقاد عصمته، ولأن العالم مهما أخطأ فإنه لا يصل به الحد إلى مصادمة قطعيات الشريعة كما هو الحال في غيرهم، وفوق كل ذلك فقول مجموع العلماء قد ثبتت له العصمة كما سبق، ولذلك يحتج الفقهاء من أهل السنة بالإجماع كما يحتجون بالكتاب والسنة، وزيادة على ذلك فإن من عدم أهلية النظر (تابعا كان أو متبوعا) مطالب شرعا بسؤال أهل العلم قبل أن يعمل أي عمل لقول الله تعالى:{ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لابنه عبد الله: إياك أن تقول قولا ليس لك فيه إمام. بمعنى إياك أن تحدث قولا جديدا وإياك أن تنفرد برؤياك وبما يظهر لك، وهذه النقطة الأخيرة إنما ذكرتها قطعا لطريق بعض الملبسين من دعاة العصمة لمشايخ العصر، والفرق ظاهر وجلي بين التجرؤ على الفتيا في الدين وبين التقليد المحض ومصادمة القطعيات فيه، وأختم هذا المقال الموجز بكلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (6/430) يقرر فيها مشاركة كثير من الناس للشيعة في عقيدتهم الباطلة –وإن لم يكونوا منهم -حيث قال: »بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثني عشر وربما عبروا عن ذلك بقولهم الشيخ محفوظ… وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة« ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.